من أجل مغرب حديث

تتبعت باهتمام كبير المحاضرة التي ألقاها د. حسن أوريد يوم السبت 9 يناير 2016 في مدينة تنغير تحت عنوان "من أجل مغرب مبادر وفاعل في محيطه الإقليمي والدولي"، وذلك في إطار الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة 2966. وبكل صدق، لا أخفيكم إعجابي بقدرته التحليلية ذات المستوى الأكاديمي العالي التي أثرى بها محاضرته، إنه من المثقفين والأكاديميين المغاربة الدين يستعصي تصنيفهم أوخندقتهم في اتجاه أو إيديولوجية معينة، نعم الأمازيغية حاضرة في مشروعه الثقافي الذي يروم طرح أحد بدائل ومقاربات مختلفة حول الثقافة المغربية، لكن حضورها بقدر حضور جميع باقي مكونات الهوية المغربية الأخرى.
هنا يجرنا للحديث عن إشكالية المثقف، بالرجوع إلى مختلف الأدبيات والمرجعيات الفكرية نجد أن هناك صعوبة في تصنيف المثقفين، غرامشي يقسمهم إلى نوعين: مثقف عضوي يحمل هموم جميع الطبقات وقضايا أمته وشعبه، ومثقف تقليدي يجلس في برجه العاجي ويعتقد بأنه فوق الجميع. الجابري يذهب في نفس الاتجاه ويعتبر المثقف هو ذلك الذي يلتصق بهموم وطنه وبهموم الطبقات "المقهورة" و"الكادحة". في الحقل الثقافي المغربي الحالي يمكن القول إنه هناك ثلاثة أنواع من المثقفين حسب أدوارهم ومرجعياتهم، النوع الأول مثقف الدولة الذي يختار لعب دور في الحياة العامة بالتقرب من مراكز القرار والثاني المثقف الملتزم الذي يدافع عن أيديولوجية معينة كالحداثيين الذين يدافعون عن القيم الحداثية مثلا والنوع الثالث هو المثقف الأصولي الذي يدافع عن فهمه للدين، وهناك من يضيف نوعا رابعا لا يدخل في خانة الأنواع الثلاث السابقة مع بعض التحفظ علما أنه من المستبعد وجود مثقف لا ينتمي إلى أيديولوجية معينة. السؤال الذي يطرحه العديد من المتتبعين هو أي نوع من المثقفين حسن أوريد؟ لست هنا للإجابة عن هذا السؤال بل لأعرض تفاصيل محاضرته التي لا تخلو من أفكار وتحاليل وخصوصا من نقاش نحن في أمس الحاجة إليه، ولمن يريد إجابة فهي حتما في مجمل أعماله، نعم الأمازيغية حاضرة في مشروعه الثقافي الذي يروم طرح أحد بدائل ومقاربات مختلفة حول الثقافة المغربية، لكن حضورها بقدر حضور جميع باقي مكونات الهوية المغربية الأخرى. إنه كما يصفه البعض مثقف يعرف الثوابت ولا تغيب عنه المتغيرات، لا يقدم بسرعة بل يحاذر.
في معرض تشريحه للوضع المغربي ألح الباحث على أنه لا مفر من التحديث ولكن في ظل الاستقرار والتشبث بالثوابت لأن الأمم التي تنجح هي التي تقوم على تراكمات و قطائع وهي التي تعترف بأبنائها. وأبرز أهمية الاحتفال بالسنة الأمازيغية كطقس قديم دأب الأجداد على الاحتفال به لما له من دلالات وأبعاد مبينا في نفس الوقت أن الغرض منه ليس الاحتفال في حد ذاته بقدر ما هو الاجتماع من أجل قضية.
وفي خضم تصفحه لتاريخ المغرب وتاريخ الجنوب الشرقي، لاستخلاص الدروس حسب تعبيره، تحدث عن التعدد والتعايش مستشهدا بالتعاقد المحلي المسمى "تفرڭانت" بمعنى الآصرة التي جمعت أيت خباش وبني أمحمد بقصر الطاوس ببودنيب وليس بأرفود في مواجهة المد الكولونيالي الفرنسي، رغم اختلافهم اللغوي الذي ذاب في هذا التعاقد.وعرّج للحديث عن وثيقة 11 يناير حيث قال إنها بقدر ما كانت تدعو للاستقلال، كانت تدعو أيضا إلى الارتباط بالشرق، وهنا تساءل أوريد هل يجوز أن نرتبط بالشرق؟ وهل من مصلحتنا الارتباط به؟ علما أننا أمة لها تاريخ. وفي تحليله للواقع السياسي المغربي أكد أن السياسة ينبغي أن ترتبط بمرجعية فكرية وإلا أصبحت عملا موسميا، وأضاف أن أهم ما أثر على المشهد السياسي المغربي وأعاق الإقلاع الديمقراطي والحداثي، ارتباط جزء غير يسير من النخبة السياسية المغربية بالأفكار القادمة من الشرق والتي وجدت الباب مفتوحا على مصراعيه بعد نكسة القومية العربية وإعادة قراءة الإسلام وتوظيفه خصوصا من طرف الإخوان المسلمين بعد 1967 والوهابية مع طفرة البترول.
يُضيف «إن الذين ينادون بكتلة تاريخية لا يقولون ضد من، إذا كانوا يعترفون أن هذه الفكرة ظهرت في إيطاليا وأن صاحب هذه الفكرة هو غرامشي، فإنه كان واضحا والفكرة كانت بالأساس ضد الفاشية».
هنا أفتح قوسا للتذكير بأن أنطونيو غرامشي (1891-1937) رغم كونه ماركسي التكوين إلا أنه سعى إلى البحث عن بديل للماركسية لإحداث التغيير المطلوب في المجتمع الإيطالي الذي كان يعاني مشاكل حينها بسبب التباين بين الجنوب المتخلف اقتصاديا والشمال المتقدم صناعيا، فالكتلة التاريخية عنده هم المثقفون. أما في المغرب فإن الجابري يرى أن القوى المرشحة لتكوين الكتلة التاريخية هي الفصائل المنحدرة من الحركة الوطنية، ثم الجماعات الإسلامية والقوى الاقتصادية.

ثم تساءل أوريد «هل يمكن لأمة لها تاريخ أن تظل عالة على الغير من حيت الأفكار، وبالأخص حينما تكون المنظومة المستوردة لا تتطابق ومصالح هذا البلد؟ هل يمكن أن نظل دوما عالة على ما يأتينا من الشرق، سواء في صيغته القومية أو صيغته الإسلامية؟ أليس هناك بديل؟ الذي هو القيم الكونية، نحن في حياتنا العادية واليومية نخضع للمنظومة الكونية في السياقة والإدارة والقضايا المرتبطة بالإنتاج المادي، فكيف لا نرتبط بالمنظومة الكونية من حيت القيم؟
الفلسفة تعلمنا شيء أساسي هو أن الأفكار القبلة للنجاح هي الأفكار التي تبرُز من دولة معينة، أي تنبت من تربتها ومن أبنائها، ألمانيا استفادت من تجارب فرنسا وإيطاليا لكنها لم تكن عالة عليهم، اليابان نفس الشيء. ثم تاريخيا فالعصر الذهبي للمغرب هو حينما كان مستقلا سياسيا وثقافيا، وقد دفعه ذلك أحيانا بل غالبا إلى تضحيات مند العباسيين وانتهاء بالعثمانيين.
أذكّر بأشياء قلتها سابقا وقد يعتبرها البعض زائدة، قبل سنتين في لقاء كهذا بتادلة قلت يجب أن نخيب على سؤالين: من نحن؟ وماذا ماذا نريد؟ هناك من يجيب نحن هم نحن، نحن مغاربة ولا داعي لطرح السؤال، ولكن في وقت ما لم نعرف من نحن، لأنه في فترة من الفترات كان البعض يعتبر أننا جزء من شيء اسمه العالم العربي، لدا فمن واجبنا أن نتساءل كمثقفين من نحن؟ نحن أمة لها تاريخ، انصهرت صحيح لكن مميزة، هذا التاريخ الخاص هو الذي جعلنا أمة مميزة.
السؤال الثاني هو ماذا نريد؟ نريد أن نصبح جزء من التجربة الإنسانية، نريد أن نكون حداثيين، نريد أن نخضع للمعايير الكونية، ليس فقط في الإنتاج المادي ولكن أيضا فيما يخص الديموقراطية والتربية وأوجه الحياة كالمساواة ببين الرجل المرأة عدم التمييز بين الأجناس وحرية الفكر والمعتقد. لا يمكن أن ندفع بخصوصية ما، خصوصا وأن بين يدينا خصوصية تتنافى والقيم الكونية.
قبل سنة ركزت على شيئين أساسيين:
1-إذا عرفنا ماذا نريد علينا أن نحدد المسير، إذا اتفقنا أننا نريد أن نخضع للقيم الكونية فيجب أن نحدد ما هي الوسائل التي يمكن أن تسهل علينا بلوغ الهدف، وأهمها التربية، بمعنى تربية الأبناء لاستيعاب القيم الكونية منذ الصغر والاعتراف بأننا لسنا أفضل لأننا في مكان معين أو من عرق معين، كما أننا لسنا أسوء من الغير، نحن مثل باقي الناس. لكي يحترمنا الناس يجب أن نحترم الأخرين بمعتقداتهم وثقافتهم ولغتهم هذه الأشياء ترسخ منذ الصغر. ليس الهدف من التربية تعلم القراءة والكتابة والحساب أو الدراسة لكي نصبح أطباء ومهندسين، هذا جيد لكن يجب أن يفكروا مثل الأمم المتحضرة، عندما نُقلّل من قيمة العقل ونغلب النقل لا يمكن النجاح في رهان التربية، عندما تكون التربية مبنية على العنف أو التمييز أي كان، لا يمكن أن نكون متطابقين مع القيم الكونية. التربية ليست هي الحفظ لأن المعلومات لم تعد مهمة والحفظ هو الذي يشجع على الغش. التربية عمل طويل الأمد ومعركة التحديث تبدأ من التربية.
2-المسألة الثانية ذكرتها لكن لا بأس أن أذكر بها، وهي أن نعي محيطنا الجغرافي، نحن في أفريقيا، وينبغي أن نتذكر ذلك وعلى مقربة من أوروبا، يمكن 13 كيلومتر تفصل بيننا ولكن من الناحية الجيولوجيا فالمغرب امتداد لأوروبا، وأكثر من هذا حتى بشريا عبر التاريخ هناك تداخل ثم هناك حوالي ثمانية ملايين مغربي يعيشون في أوروبا. إن مصلحتنا مع أوروبا كما أن جدورنا مع إفريقيا، بتعبير يزم دبلوماسيتنا أن تعتمد على ما سميته المحور العمودي، وليس الأفقي. وإني أعتقد أن التربية، بالأساس، والخيار الدبلوماسي، والدولة القوية والمضي قدما في المسار الديموقراطي، وكلها أدوات من أجل المرور إلى التحديث، وليس في الأمر جديد. ذلك أن هذه الأمور التي تحدثنا عنها ليست اكتشافا فهي أمور موجودة في خطاب الدولة، ونجدها في اليسار، ونجدها في الحركة الأمازيغية، ونجدها عند عناصر ليبيرالية ونجدها كذلك عند عناصر بورجوازية. فهل من الحكمة أن تظل متفرقة؟ لا أعتقد أن طرفا واحدا من هؤلاء إذا انفصل عن الآخرين يمكن أن ينجح في هذه المعركة، أليس من الحكمة ومن الذكاء أن نفكر، في إطار فكري جامع لكل هذه العناصر؟ التي يمكن أن تتألف عوض أن تتنافر، أن تتكامل عوض أن تتعارض. نحن نعلم أن الأمم، لكي تنجح، لا بد أن تضافر جهودها، هناك فيلسوف فرنسي يعتبر مرجع فيما يخض مفهوم الأمة وقال بأن الأمم لكي تنجح، لابد لها من عنصر جامع مثل الإسمنت، وهو الأمة. فلا يمكن أن تقوم بأشياء عظيمة، إلا إذا كانت متحدة جامعة (faire de grand-chose ensemble)، فلا يمكن القيام بأشياء عظيمة ونحن مشتتون، كل واحد منا في جهة: عناصر حداثية في اليسار، عناصر حداثية في الدولة، عناصر حداثية في الحركة الأمازيغية، وعناصر حداثية في البورجوازية. إن هذا التشتت هو الذي يجعل العناصر المحافظة تستغل الظرفية وتصبح الفاعل الرئيسي. فإذا كان هناك بروز اتجاهات محافظة، فلأن الأطراف الأخرى مشتتة. لذلك ينبغي إيجاد إطار فكري، بالأخص في الظرفية التي نعيشها أو ربما ممكن كذلك تنظيم، وهذه في اعتقادي أشياء أساسية لأن مسار ومآل المغرب هو أن يكون حداثيا، إلى حد الأن التجربة ناجحة لكن لابد من دفعة جديدة لهذه التجربة، وبالأخص في السياق الذي نعرفه. أشرت إلى الأطراف الأخرى، يمكن أن يختلف معها بعضنا من حيث الأسس، ويمكن أن يختلف معها من حيث الأهداف. ولكن يمكن أن نلتقي معها في قضايا آنية. لذلك دائما يجب اعتماد احترام الآخر، حتى في الاختلاف، وحتى في الأسس، وفي المرجعيات. احترام الآخر والحوار كذلك، وفي جميع الحالات رفض شيء اسمه الإقصاء أو الحقد أو خطاب الكراهية. إذا كنا نريد أن نقوم بشيء أساسي لبلادنا فمن اللازم أن تكون العناصر التي تشترك في القيم موحدة. ولكن ، في ذات الوقت العناصر التي يمكن أن نختلف معها، يجب أن نتعاون معها بكل احترام، في إطار الحوار، وفي إطار أن الوطن جامع، بدون عقد، ولكن بالأخص بدون حقد، لأنه ما يسيء، أوما قد يسيء للكثير من الخطابات، التي يمكن أن تكون نبيلة، لكن الذي قد يسيء إليها أحيانا أن تُدفع، أو أن تجنح أحيانا إلى الغضب والكراهية والحقد. إني أقول لكم، من خلال تجربتي البسيطة أنه إذا كانت هناك إطارات حداثية فليس من مصلحتها فقط أن تتحد بل من واجبها أن تتحد، فهناك معركة أساسية، لكن يجب أن تتعامل بحكمة مع الأطراف التي تختلف معها. ما هي الغاية؟ الغاية أن نصبح دولة متقدمة على غرار الدول الأخرى في الضفة الشمالية من البحر المتوسط. لدينا جميع المؤهلات لكي نصبح دولة متقدمة: وضعنا الجغرافي، وطبيعة شعبنا السمحاء، وحضارتنا، وثقافتنا، وثوابتنا، هذه كلها أشياء تساعدنا على أن نربح الرهان. ما ينقصنا هو إطارات فكرية وربما سياسية لبلورة هذه التوجهات. هل يمكن أن نكون أمة متقدمة لها وزن؟ نعم هناك تراكمات، كما قلت في مستهل كلمتي، الأمم التي تنجح هي التي تقوم على تراكمات وعلى قطائع. إن كما قلت في البداية ما هو إلا أرضية للحوار والنقاش. ويجب أن نعي أن الظرفية دوليا وإقليميا ووطنيا تستوجب إطارا فكريا جديدا، وسياسيا جديدا، يقودنا إلى التحديث. الأمور ناضجة. اسمحوا لي أن أختم بمقولة كان يرددها الزرقطوني، شاب أنهى حياته في 27 سنة ولكنه رسم مسار هذا البلد وضحى من أجل انقاد المقاومة، وكانت له قدرة كبيرة على التنظيم، حيث نظم كل الخلايا في الدار البيضاء و فاس ومكناس ومراكش، وكان يدوما يردد جملة حين يحس أن الأمور نضجت "هَا الماء طاب"، "نْوَانْ وَمَانْ".»
 وسنعود للمداخلات ورُدود حسن أوريد في الجزء الثاني.
محمد أعزيرو.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدرس الثاني من سلسلة دروس خط و إملائيات اللغة الأمازيغية

كتاب نحوُ الأمازيغية للتحميل

مسرحية أوسان صميدنين