ميدلت محاولة التأصيل
كثيرة هي الأعلام الأمازيغية التي لا تبوح بسرّ معناها وتحتفظ به في أعماق التاريخ، ويأتي التداول عبر الزمن ليُدخل تعديلات عليها إما بتغيير أماكن الحروف أو إبدال حرف بأخر ليزيد من تعقيد مهمة فهمها وتأويلها وتصنيفها، ومن هذه الأعلام اسم "ميدلت". إن اسم المكان ليس ترفا يمكن تحييده بل يكاد يكون الجوهر لارتباطه الوثيق بشبكة من العناصر ذات الأبعاد الثقافية والهوياتية. إن أي دراسة طوبونيمية تستدعي منا الحذر الشديد حتى لا نسقط في التحاليل والتأويلات السطحية أو ما يصطلح عليه القدف بالتخمين، بالبحث عن قرابة محتملة مع بعض الأعلام الأخرى في وقتنا الحاضر واقتراح فرضيات ك "mi-delta" "tismdelt" "m-ddlt" ...إلخ، وهذا تشويه للغة وإساءة لها أكثر مما هو شيء أخر.
من المعروف أن موقع المدينة كان يُعرف قبل مجيء الاستعمار الفرنسي ب "أُوظاظ"، وأهم ما يطبع المعطيات المصدرية عن هذا الاسم هو نذرتها، كما أن عملية النقل من مصدر لآخر تؤدي إلى تحريف الأسماء، فاسم "أوظاظ" بالظاء لاوجود له في المصادر التاريخية المعروفة التي اطلعنا عليها بل نجد اسم "أوطاط" بالطاء من الوطاء (ما انخفضَ من الأَرض)، بل الأكثر من هذا في بعض المراجع يتم الخلط بين اسم "أوظاظ" (ميدلت حاليا) و منطقة "أوطاط الحاج"، غير ان الاسم المعروف عند الأوائل هو أُوظَاظْ من "أَظَاظْ" وهو الأصبع بالأمازيغية، أصل هذا الاسم حسب الرواية الشفوية هو تعبير مجازي عن نصيب المياه الجارية في الوادي: "أَظَاظْ نْ وَامَانْ"، فالسكان الحاليون استوطنوا المنطقة سعيا وراء المرعى وخاصة نصيب المياه المتدفقة من جبل العياشي في سفوحه الشمالية، ولأنها قليلة مقارنة بما يتدفق في الجهة المقابلة في اتجاه واد زيز اصطلح عليه بأصبع من الماء، والرواية قريبة إلى الصواب نظرا لعدة اعتبارات أولها أن الماء والمرعى هو المتحكم الرئيسي في حركية وهجرة القبائل بل الأكثر من ذلك هو السبب في العديد من الصراعات بينها، وثانيها أن القبائل المستوطنة لواد أوظاظ هي امتداد لقبائل واد زيز التي انتقلت إلى المنطقة في مرحلة أوج قوتها للاستحواذ على هذا النصيب من المياه الجارية حتى أصبح سكان المنطقة يعرفون ب "أيْتْ أُوظَاظْ " الذي تحول إلى "أوطاط" لتشابهه مع اسم منطقة أطاط الحاج.
تُجمع مصادر الحماية الفرنسية على أن اسم "ميدلت" أطلق على موقع عسكري نسبة إلى تلة متميزة بشكلها على بعد 10 كلم بمحادة الطريق الوطنية في اتجاه مكناس، لكن الإشكال يبقى في معنى اللفظ وفي أصله.
لفظ "midelt" ينتهي ب "t" وفي الامازيغية الأسماء المؤنثة هي التي تبدأ "t"وتنتهي ب"t"، وهنا يُفترض سقوط تاء البداية كما ذهب إلى ذلك E.LOAST الذي افترض اسمي "Tamidelt أو Temidelt "، لكن افتراضه لم يأتي في سياق دراسة هذا الاسم ولكن في سياق أخر، وهي محاولة تقريبية لمصطلح "tamidelt" الذي يطلق في لهجة " جبل نفوسة" بليبيا على مخزن جماعي للحبوب تحتفظ فيه القبيلة محصولها بعيد عن متناول اللصوص وأخطار الطبيعة، غير أن مثل هذه البنايات نجدها في منطقة سوس تحت اسم "agadir/ igoudar" ولاوجود لها في المنطقة. فرضية تعرض الاسم الأصلي للتحريف مستبعدة لسبب بسيط هو وجود أسماء مدن ومناطق بنفس التركيب والشكل حافظ المستعمر الفرنسي على أسمائها الأصلية دون تحريف نذكر منها مثلا "taroudant" و "tamdoult" المدينة التاريخية الأثرية الموجدة بمنطقة "أقّا" بإقليم طاطا.
بعد استحضار مقارنات على مستويات صوتية ودلالية وانتقالية إلى لغات أخرى، تتمثل الفرضية التأصيلية الأرجح في افتراض أن الأصل الأقدم لاسم ميدلت هو "mtidlet" وهو اسم مركب يتكون من لفظتين "mm وtidlet" فالمقطع "mm" في الأصل "mmu" أداة للانتساب وهي للمؤنث ومذكرها "bu"، أما "tidelt" فيطلق على كل ما هو أخضر أو الخُضرة في إشارة إلى الأرض الخضراء المغطاة بالعشب ، وهو حال المنطقة المحيطة بالتلة المذكورة سلفا والمعروفة بانتشار نبات الحلفاء "أَوْرِي" والتي كانت حسب الرواية الشفوية منطقة لتجمع القبائل لإقامة سوق لتوفر الكلاء والماء بقرب واد "أنسـﯕمير"، فشكل التلة متميز ويعد كمنارة ترشد القوافل التجارية القادمة من تافيلالت في اتجاه مكناس مرورا بقصبة "تاميسوت" في عهد المولى إسماعيل حين أُحْدِثت هذا الطريق التجاري كمنافس لطريق تافيلالت فاس عبر القصابي ، "tidlet"مشتقة من الجدر الأمازيغي "dl"، ويستعمل بمعنى "couvrir/غَطَّى" وكذا "être vert/ما هو أخضر" وهو تطور ناتج عن الاستعارة والمجاز، ونجده على شكل "ḍl" بالضاد في تنوعات لهجية أمازيغية أخرى، ومن المصطلحات التي نجد فيها هذا الجدر كلمة "أكدال/ agdal" وهو المرج أو المرعى في المغرب، و في معجم (dictionnaire des racines berbères de Mohamed Akli HDDADOU) نجد "dalet" أي être vert و"adal" نوع من الطحالب تنمو على سطح الماء في لهجة الطوارق و "eddala" نبتة خضراء تنمو فوق الماء في لهجة بواحة "سواه" بمصر، و"tidel" الخضرة عند سكان قلعة "سند" في تونس و "dal" اللون الأخضر الغامق في لهجة مزاب الجزائر، وهناك استعمالات أخرى للجدر"dl" بمختلف أساليب الاستعارة والمجاز تطور معها معناه ليس هنا مكان للخوض فيها كلها، فاللغة الأمازيغية لغة اشتقاق، مثل اللغات السامية، يسهل اشتقاق ألفاظ متعددة من جذر واحد بدلالات مختلفة ومتنوعة.
خلاصة ف "mtidelt" تحولت إلى "midelt"، بعد سقوط "t" في بداية"tidlt" وصارت "idlt" للاقتصاد في الجهد عند النطق وتيسيره وكنتيجة لتطور الاسم بكثرة استعماله وربما وقع ذلك
في الفترة الاستعمارية، فلاسم نوع من المركبات الوصفية التي تتم بزيادة bu للمذكر او mmu للمؤنث مثل "mm-ibladen ميبلادن" و"mm-ichlifen ميشليفن" و "ميملالن/mm-imlaln".
في النهاية يبقى كل ما ذكرناه محاولة للكشف عن بعض من خبايا الاسم بعيدا عن أي دفء إديولوجي أو قصدية براكماتية، بل الحافز هو إيماننا أولا بضرورة فهم واستيعاب اللغة والثقافة الأمازيغية لنقف على حقيقة وكنه الطبونيم ، وثانيا من أن اسم المكان ليس مجرد علامة لسانية، بل باقة من الحمولات تتنوع بين ما هو خرافي ومقدس وميتافيزيقي وثقافي وطبيعي. فالاسم ماهيّة نطقية عابرة للزمان والمكان، يكبر معنا وينتشر بذيوع صيتنا أو يتلاشى بخفوتنا فتضيع صورته بين الأماكن.
محمد اعزيرو
Midelt, dans la haute vallée de la Moulouya, est le nom actuel et usurpé d'un poste et d'un centre de colonisation en création. Le nom connu des indigènes est Outat n AH-el-Hadj: "fide/t ôtant le nom d'une gara isolée et déserte (qui s'en trouve distante d'une dizaine de kilomètres vers l'Ouest. On rétablira l'expression sous la forme tamidelt ou temidelt
E.LAOST , L'HABITATION CHEZ LES TRANSHUMANTS DU MAROC CENTRAL, collection Hesperis, institut des hautes études marocaines,1935, p180
تعليقات
إرسال تعليق
الرجاء من القراء ومتصفحي الموقع الالتزام بفضيلة الحوار وآداب النقاش عند كتابة ردودهم وتعليقاتهم. وتجنب استعمال الكلمات النابية وتلك الخادشة للحياء أو المحطة للكرامة الإنسانية، فكيفما كان الخلاف في الرأي يجب أن يسود الاحترام بين الجميع